الشيخ أحمد مال الله .. حكايتي مع المنبر الحسيني...

الشيخ أحمد مال الله .. حكايتي مع المنبر الحسيني...
محمد نعمان-الميثاق - 2005/02/13 - [عدد القراء : 779]


أربعون عاماً وأكثر تلك التي قضاها الخطيب المعروف الشيخ أحمد مال الله مع المنبر الحسيني، وعاصر خلالها أطواره وأشكاله المتعددة طيلة هذه السنين ، وعاش معه وتربي وتعلم منه ، تعلم الخطابة وعلّمها ، فنشأ علي يديه الكثير من الخطباء أصبحوا فيما بعد من رواد المنبر ونجومه ..
وهنا نحن ننصت معاً لحكاية هذا الخطيب مع المنبر ونتعرف علي هذه الحياة ومعاصرتها للمنبر، كعينة بحرينية خبرت المنبر فأخبرتنا عنه من خلال معايشتها له وحياتها معه ..
طفولة تتوق إلي الخطابة ..
.. في الواقع أن فكرة الخطابة كانت تراودني في منذ الصغر، منذ أن كان لي من العمر ست أو سبع سنوات، في ذلك الوقت كان الناس عاطفياً وفكرياً متجهين إلي المأتم.. ينشرح المرء إذا قيل أن الليلة قراءة في المأتم.. وكما تعلم أن ملا عطية يرحمه الله منذ صغر أعمارنا .. نسمع به .. حتي أنه قبل أن يؤلف وينشر ديوانه (الجمرات الودية) كان الناس يتدالونها ويحفظونها .. وكان لها رواج ..
وحينما نذهب إلي المأتم كانت أفكارنا حاضرة، وليست مشغولة بشئ آخر ...ليس لدينا جريدة أو تلفزيون أوغيره .. مشغولون فقط بالمأتم والقراءة.. كنا نحب الخطابة ونحفظ الأبيات ونحن صغار ..
ولما يأتي محرم ونحن أطفال نلعب (قراءة )! ونتجمع ونضع (بيب) صندوق تمر فارغ .. وأجلس عليه وألعب دور الخطيب ..
الوالد - يذكره الله بالخير- كان يعتني بتربيتنا ..وكما تعلم أن ذاك الوقت أغلب الناس لا يري إرسال أبنائهم إلي المدرسة .. المدارس آنذاك موجودة وافتتحت حديثاً ..كالمدرسة الجعفرية والخميس ...كان الوالد من الآباء الذين رأوا أن المدرسة الحكومية لا يمكن أن يضع أبناءه فيها ..
وعليه فإن أبي أرسلني إلي 'الكتّاب' وحفظت القرآن .. وكنت قد تعلمت عند رجل فاضل يسمي عبدالكريم من بني جمرة، ورجل فاضل آخر من بني جمرةويسمي ملا أحمد وأيضا الفاضل ملا محمد من الإحساء والفاضل ملا جاسم .. وبعد حفظ القرآن تعلمت الكتابة لديه .. حيث أن أبي لا يرضي أن تعلمني إمرأة .. حيث أن النساء كنّ يعلمن الكتابة والقرآن .. ويعلمن ز فخريس وسوفاة النبيس ..
وبعدها أرسلني أبي إلي الشيخ عبدالله القطيفي وهو معروف بكتابة مكاتيب .. وفي ما ضينا الجميل من يعرف يكتب وخطه جيد ..يضمن له وظيفة جيدة أمام المحكمة أو في السوق ..ويكتب عقوداً ومراسلات ..
كنت اتعلم ما كنا نسميه بـ 'النظر' حيث يكتب لي الشيخ القطيفي سطراً وأكرر كتابته .. حتي صار السطر سطرين في الصفحة الواحدة ..سطر في أعلي الصفحة وسطر في وسطها ..ثم صاروا ثلاثة !.. وانتقلت إلي مرحلة الإملاء.. ' وأهم شئ عرفنا نكتب' ..
وبعد معرفتي للكتابة .. وكان عمري حينها حوالي اثني عشرة سنة ..سمعت من أحدهم والدي يريد أن إرسالي إلي الملا عطية الجمري ، وقد أصبت بشيء من الخوف لمكانة الملا عطية ولكونه يدرس أشخاص محددوين ويركز عليهم .. وفي نفس العام ذهبنا إلي زيارة العتبات المقدسة في العراق .. والزيارة في ذلك اليوم تستمر إلي ثلاثة شهور ونصف ..وهناك تابعت الكثير من الخطباء ...و بعد عودتنا مع الوالد كنت أترقب أمر ارسالي للملا عطية .. ولكن الوالد حفظه الله تخلي عن .. وقد كنت أهاب وأخاف أن أتحدث مع الوالد في هذا الموضوع .. الآباء في السابق لا يتيحون في العادة لفرصة للأبناء أن يتكلموا بحرية .. أو يناقشوا أي أمر ..
مكتوب ..إلي والدي ..
وقد كنت متحيراً في محادثة الوالد .. وقفزت لي فكرة أن أكتب له مكتوب .. وهذا ما حدث فقد أوصلت له الرسالة اشرح له وضعي فيها واطلب منه أن يدبر لي أمري .. حيث أني لا ادرس ولا أعمل والقرار كان بيده، ولا يليق أن أجلس في البيت وعمري حوالي ثلاثة عشرة سنة، وأتت الرسالة بمفعولها .. فالوالد رأي أن يلحقني بشخص نجار يسمي الميرزا من النعيم وعملت معه حوالي سنتين أو سنه ونصف وعرفت النجارة، وبعد ذلك عملت في إدراة الأشغال حيث لم تكن وزارة بعد آنذاك ..
مع ذلك لم تفارقني فكرة الخطابة ورغبتي في التعلم، لكني لا أستطيع الحراك لأن أبي موجود ولم تكن لدي الاستقلالية حتي أتوجه حيث أري وحيث أريد..
فعملت حوالي ست سنوات في إدارة الأشغال ، وتنقلت من عمل لآخر .. فعملت في 'ادراة الرسوم' في القضيبية ، ثم في السلمانية .. وأماكن عدة، صحيح أنا أشتغل ..ولكن لا أزال أرغب في القراءة .. أريد أن أستمع إلي الملا عطية .. 'الجمرات' كنت أحفظها منذ العاشرة من عمري واشتريت كتاب الجمرات وكتاب روضة الواعظين وكتاب قصص الأنبياء وكتب كثيرة ...
ثم كتبت رسالة إلي الشيخ محمد طاهر في المحمرة وأرسل لي كتاب السداد وبعض الكتب وحفظت عدة قصائد .. تلك كانت مصادر الخطباء والمتعلمين ..
كيف امتهنت الخطابة ؟؟ .. لم أصعد مباشرة إلي المنبر .. في البداية قرأت 'حديث' منتخب الطريحي وهو ما يسبق قراءة الخطيب.. وكنت انشد وأقرأ في المواليد والأعراس .. وبدأت 'أقرأ' في كل مكان .. المنامة .. وغيرها .. في ذلك الوقت كان زللمنتخبس مكانه، وهذا لم يأت بالتعليم هذا بالفطنة ولله الحمد .. في الوقت الذي كان جدي يعلم القرآن وأنا حديث حفظ القرآن وأنا حديث عهد بالكتابة والقراءة .. وأتمرس كيف يقرأون، وقرأت 'الفخري' لم أقرأ بشكل عادي.. وإنما ألزمت نفسي مثل المتخصصين في 'جر الحديث'.
لم تفارقني الفكرة .. ولكن كيف أصعد المنبر بمفردي؟ يجب أن يكون مع أستاذ فصعدت مع 'ملا جواد' وهو أقرب الناس إليّ ..وقد كان خطيباً في 'السقيّة' ..و'رأس رمان ز وس بيت الحلال'..
وبعد عدة توفيقات لصعود المنبر .. كنت أود المواصلة وصقل موهبتي ..تركت جميع الأعمال وتفرغت للخطابة .. ولصقل موهبتي سافرت إلي زالقطيف ز بالمملكة العربية السعودية ..
أقمت هناك حوالي 25 يوماً .. وظللت أسافر وأقرأ في محرم وفي شهر رمضان .. ثم قرأت لدي حجي مكي السندي .. ثم بيت خميس .. حوالي سنة 1957 أو 1958 ..
لم أدرس أي دراسة مثل بقية الخطباء الباقين لا يجيدون العربية ولا المنصوب ولا المرفوع حتي الكبار منهم .. مثل صنقور والدمستاني...
وبدأ الوعي لدي الناس يتنامي .. وانتشرت المدارس .. وذهبت للدراسة لدي الشيخ عبدالحسن الله يرحمه في منزلهم .. ثم عاد السيد علوي الغريفي من النجف والتحقت به ..وتعلمت العربية ودرست 'الأجرومية' وانتهيت منها ..ودرست 'القطر' وانتهيت منه .. ثم درّسته ودرّست كذلك الأجرومية ..وكذلك 'الألفية' و'التبصرة' وكان معنا الشيخ عيسي أحمد قاسم الله يذكره بالخير ..والشيخ عبد الأمير الجمري الله يحفظه والشيخ عباس الريس الله يرحمه والشيخ حسن القيسي والملا حسن العصفور الدرازي.
في سنة 4196م ذهبت إلي الحج للمرة الثانية ..وفي تلك السنة كنا مع السيد علوي الغريفي ، وقد وجهني إلي أن اكتب إلي ز الدائرة الشرعية ز وأنا بحسب معرفتي إن ز الدائرة ز لا تعطي راتباً لأحد ..إلا إذا كان والده عالم دين أو قاضي توفي ، يرسلون إلي ابنه لتعليمه ..بينما أنا رجل غير معروف وأبي ليس بقاضٍ !..
ولكن ببركات السيد علوي وتوجيهه ..حيث ألح بأن أكتب رسالة إلي الدائرة .. وقال أنا سأوقع عليها .. أتذكر ذلك جيداً ..رفضت ذلك ..ولكنه طلب من ابنه المرحوم السيد أحمد الغريفي بأن يحضر زالدفترس ثم أملي السيد علوي علي ابنه السيد أحمد وكتب الرسالة .. وقال إليّ سترسله إلي الدائرة أم أرسلها أنا ؟ .. ولم يسعني أمام هذا الإلحاح إلا الموافقة .. حيث أني كنت أعتقد أنه لا استجابة لطلبي .. ولكن بعد شهر وقد كنت زأقرأ عادة ز بيت حجي علي بن خميس الله يرحمه جاءني السيد وقال لقد وافق المجلس علي إرسالك إلي النجف، فذهبنا وفي ذلك الوقت كان ابني عبد الأمير صغير وكان ذلك سنة 4196م إلي سنة 1970م درست الدراسة الحوزوية وواصلت الخطابة ، وتحققت أمنيتي.
التصنع ..
التصنع يعتبر أمر ضروري بالنسبة للخطيب، فالشخص الذي لا يتصنع يصبح غير قادر أن يؤدي الخطابة بشكل المطلوب بينما نلاحظ النجاح في الغالب الأعم لدي من تصنعوا...
مراحل التصنع..
التصنع يختلف الآن عن السابق. قبل أربعين سنة تقريباً التصنع.. الصانع يكون ملازم إلي الأستاذ في منزله .. عندما يرسل الوالد ولده إلي الخطيب / الملا لتعليمه، يسكنه في بيت الملا ، والملا يعتبره مثل ولده ، يعلمه ويطعمه، ويهيئ له محلاً في بيته لنومه ، ويكون الصانع في أيام الخطابة ملازماً للملا كظله..
ويبقي ملازماً حتي يستقل ، وكل حسب ذكائه .. المتصنع قد يبقي عند الخطيب سنة أو سنتين وهناك من بقي صانعاً اثنا عشرة سنة ثم استقل..
وكيفية التصنع في السابق .. كانت بأن الأستاذ الخطيب يُعلم الطالب المتصنع ويعطيه قصيدة ويلزمه بحفظها .. والقصيدة ثلاث مراحل والمرحلة الأولي مقدار عشرة إلي خمسة عشر بيتاً ويسمي نثر ويقرأها بطريقة خاصة، ثم بعد ذلك يعطيه أربع أو خمسة أو ستة أبيات وتسمي رد أي جواب ثم بعد ذلك يرفع صوته بحماس مثل الأبيات السابقة ومثل اللحن لكن بحماس تقريبا حوالي عشرة أو اثنا عشر بيتاً، ثم يدخل من بعده في الأبيات .. تكون مثل الأبيات يحفظها، وكذلك يحفظها الأستاذ لأنه وفي بعض أحيانا قد يكون الأستاذ لا يريد يتأخر أو ما يريد يقرأ 'قصيد' لأن الوقت قصير ويريد الذهاب إلي مكان آخر ..
الصانع ينشد زالقصيدس ويقرأ الأبيات، وحين يبدأ في الأبيات في بيت أو بيتين ،يقوم الأستاذ والصانع يراه فينزل ويقف علي جنب الكرسي أو المنبر ، ويصعد الأستاذ/الخطيب ويقرأ نفس الأبيات التي قرأها الصانع بدون أن يكون هناك أي فاصل ، وينشدون الأبيات معاً في صوت واحد ، وإذا انتهت الأبيات يبدأ الأستاذ في القرأة والصانع يتوقف ، فأحيانا لا يريده يقرأ القصيد وأحيانا أخري يريد أن يقرأ قصيد فيقرأ أبياته كلها، والصانع أحياناً يكون عنده ذكاء وقدرة علي الأداء ويضبط لحنه من مرة أو اثنتين، بينما البعض يحتاج لفترة حتي يستقيم علي اللحن .. ماذا يعمل الأستاذ في مثل هذه الحالة؟ أولاً يقرأ معه ويُحفظه الأبيات التي سوف ينشدها ويقرأها بعد نهاية المجلس .. وهنا الصانع لا يجلس في مكان بعيد عن المنبر، إنما يجب أن يجلس بقرب المنبر، حتي المستمعين لا يجلسون في هذا المكان مهما كان اكتظاظ المأتم بالمستمعين لا يجلس أحد مكان الصانع .. لأن هذا الأستاذ لما يبدأ الأبيات يكون عنده علم مسبق بإن الصانع سوف يبدأ معه ..كل ذلك ليحفظ الصانع اللحن.
أما في الزمن الحالي فجاءت الميكرفونات ومكبرات الصوت ولم تعد هناك حرية لينزل الصانع ويصعد الخطيب .. في السابق ينزل الأستاذ وينزل الصانع ..مثل أيام ملا علي صنقور وكذلك أيام ملا عطية فالتصنع كان بهذا الشكل، أما الأيام والسنوات الأخيرة تغير فجاءت الميكرفونات التي تلتصق عادة بالمنبر .. مما أعاق عملية 'التبادل' السلسة من قبل .. وفي السابق الصانع لم يكن يجلس أبداً في الدرجة الأخيرة في الأعلي بل في الدرجة الثانية من المنبر..
وقد وفقت للتصنع ووفقني الله فتتلمذ علي يدي عدد غير يسير من الخطباء منهم ولدي عبد الأمير والسيد صادق الغريفي والسيد ياسر الساري والشيخ حميد عبد الشهيد والشيخ محمد جابر والشيخ إبراهيم الحمران وغيرهم ..
ورغم أن التصنع نوع من التعلم والتدريس إلا أنه لا يمكن أن يصبح هناك مدرسة للخطابة بديلة عن التصنع، لأن التصنع تطبيق عملي أثبت نجاحه ، يمكن أن تكون هناك مدرسة رديفة للتصنع ومثرية لمعلومات الخطيب .. ولا يمكن أن تحل مدرسة محل التصنع ..
الخطيب هذا اليوم عليه أن يكون دارسا، مطلعاً علي علوم أهل البيت (ع)، لأن مهمته الأولي نشر العلوم الإسلامية والدفاع عن الدين، ولا بد أن تكون لديه دراسة اكاديمية موفقة ليستطيع أن يطرح بقوة ويجاري حس المجتمع فيوجهه ..
وفي النهاية أود القول أن الخطابة ليس مهنة احترافية بل هي رسالة يحملها الخطيب ،لذا فأجرة الخطيب غير محددة وقد لا تكون هناك أجرة وتكون هناك خطابة يلتزم بها الخطيب لأن عليه أن يؤدي الرسالة ، وأداء الرسالة والدعوة وتوعية المجتمع ونشر مفاهيم أهل البيت (ع) هي الخطابة والدور الذي حاولت أن أقوم به وأمارسه وهو ما تعلمته في حكايتي مع المنبر الحسيني ..